في دياجير الزمان، وحين تستكين كل جارحة إلى غسق، وتخبو جذوة كل أمل في عتمة المآل، تنبئنا أسفار الضوء عن وميض فريد، عن شعلة واحدة ما انفكّت ترقص في مجرى الريح، لا تعبأ بصرصر العاتيات ولا تحتفي إلا بضرامها. شعلة كأنما قدّت من صلب الكبرياء، وسكب في زيتها عصارة الإباء، فشبّ لهبها متأبداً، يرفض منطق الأفول ويمقت سنة الانحدار.
ليس وقودها من حطب الدنيا الفاني، ولا من أدهان الأرض التي تنضب، إنما وقودها حكاية تأبى أن تُختتم، وعهد قُطع في غياهب الأزل ألا يكون السجود إلا على أعتاب النور الأعظم. ترتعش ألسنتها، لا خوراً ولا جزعاً، بل توقاً إلى سماء تليق بلهفتها، وشغفاً بمصير يختطه وهجها، لا ظلام يلقي عليها رداءه.
تروي لنا حنادِس الدهر أخبارها؛ كيف جاهدت في مضارب القنوط، وكيف أضاءت وحشة الدروب الطويلة. كلما أحاط بها ليل بهيم، تطاولت واستعرت، كأنما تغتذي من الظلام ذاته لتزيده خزياً. كأن في كينونتها سر البقاء الذي لا يفنى، بل ينتقل من حال إلى حال أسمى. ما فتئت تغالب سكرات الغروب، وتدفع في صدر الأصيل أمواجه الباردة، معلنة أن نهايات العظام لا تكون في السواقي، بل في أحضان البحار التي منها نبعت.
وها هي ذي، تلك الجذوة المتمردة، قد يمّمت وجهها شطر الأفق البعيد، لا تسأل عن واد سحيق ولا تخشى صعوداً كؤوداً. غايتها مشارف الشمس، هنالك حيث يلتهم السناء كل ضوء صغير ليزيده ألقاً على ألق. لا تطمع في الخلود على الأرض، بل تصبو إلى فناء يليق بعظم اشتعالها؛ أن تذوب في قلب أمها التي أنجبتها، أن يصير وهجها جزءاً من شعاع الشمس الأبدي.
فلا تحسبنها تنطفئ، بل هي تكتمل. تصعد تاركة وراءها حفنة رماد بارد هي عمرها الأرضي، لتبلغ موئلها الأخير. هناك، على مشارف الشمس، لا يكون موت ولا خبو، بل انصهار مقدس، وعودة أزلية لقبس من نور إلى منبع النور كله، فلا يقال "خبت"، بل يقال "اتحدت".
الحسين ببها أمين